هنية عدلان تكتب “مصر فجر النصرة الجديد”
: من هجرة الرسول إلى المدينة… إلى هجرة السودانيين نحو مصر
في ظلال التاريخ، تتكرر الحكايات لا لتتشابه وحسب، بل لتُثبت أن القيم النبيلة لا تموت، وأن شعوبًا تربطها العراقة والمصير المشترك قادرة على أن تُعيد إنتاج أعظم صور الإنسانية، متى ما اشتد الخطب واشتعلت النيران.
في صدر الإسلام، حين اشتد الأذى والبطش على المسلمين في مكة، لم يكن أمامهم سوى الرحيل، تاركين وراءهم الأهل والمال والديار. فتوجهوا إلى المدينة، حيث وجدوا صدورًا رحبة وأيادي ممدودة من “الأنصار” الذين قدّموا أجمل صور التضامن والإيواء، فكانت تجربة فريدة في سجل البشرية، لم يشهد لها العالم مثيلًا في قيم المؤازرة والتكافل.
واليوم، وبعد مضي أكثر من أربعة عشر قرنًا، يعيش السودان محنةً لا تقل قسوة، فُرِض على شعبه الكريم أن يترك بيته ومسقط رأسه، باحثًا عن الأمان. وكانت مصر، التاريخ والجوار، الحضن الأول، والباب المفتوح بلا تردد. استقبلت السودانيين كما استقبل الأنصار المهاجرين، لا باعتبارهم “لاجئين”، بل إخوة في الدم والمصير، في تجربة لا يمكن فهمها إلا من زاوية الشعوب التي تحفظ ودّ التاريخ.
إن مصر، التي احتضنت السوداني في الشارع والمدرسة والمشفى والمأوى، لم تفعل ذلك بمنّة أو انتظار شكر، بل بفطرة العلاقة التي تتجاوز المصالح إلى الروابط الوجودية العميقة. فتجد في الحي الواحد منازل مصرية سودانية تتقاسم الحياة، وتجد في المدارس أطفالًا سودانيين يعاملون كأبناء البلد، وتجد في القلوب مودة لا تصطنع.
ولن ينسى الشعب السوداني هذا الجميل، سيظل يردده جيلًا بعد جيل، لأن المواقف الصادقة لا تُمحى من الذاكرة، خاصة عندما تأتي في زمن الحاجة. وسيكتب التاريخ أن مصر كانت أنصار السودان في محنته، كما كان الأنصار أنصار المهاجرين يوم اشتدت الشدة.
وكما عاد المهاجرون إلى مكة بفتح مبين، فإنّا على يقين أن السودان، الذي يمرّ اليوم بأصعب محنه، سيعود أقوى، بتكاتف أهله، وبسند أنصاره من حوله.
فجر الأمة في الهجرة النبوية لم يكن مجرد انتقالٍ من مدينة إلى أخرى، بل لحظة تحوّلٍ صنعت تاريخًا نؤرّخ به السنين. فهلّا يكون ما نعيشه اليوم — من نصرةٍ، وصبرٍ، وتكاتف — بدايةً لفجرٍ سودانيّ جديد؟
فجرًا نؤرّخ به عهد النصرة والعزة والإعمار، ونفتح به صفحة تاريخٍ مشرق، ناصع، براق… يليق بشعبٍ يستحق الحياة.
التعليقات مغلقة.