بُعْدٌ .. و .. مسافة *مصطفى أبو العزائم… بين الفريق إبراهيم عبود ومحمد وردي

*

بالأمس مرّت ذكرى وفاة الفنان الكبير محمد وردي ، ولوردي تاريخ ناصع في الفن والسياسة وهو صاحب مشروع فني إجتهد كثيراً من أجل تحقيقه ، وسبق لي أن جلست إليه كثيراً ، وحاورته حول نظام الفريق إبراهيم عبود ـ رحمه الله ـ الذي تنازل عن السلطة في الخامس عشر من نوفمبر عام 1964م ، عقب حل المجلس العسكري الأعلى ونجاح ثورة «21» أكتوبر الشعبية في ذات العام ، وكان قد أختير رأساً للدولة رأساً للدولة في أقصر فترة انتقالية لشغل هذا المنصب ، وفق دستور 1956م ، لكن رئاسته لم تستمر بعد الثورة إلا ساعات محدودة ، وخرج رحمة الله عليه وأصحابه الكرام مثلما دخلوا إلى مؤسسات السلطة نظيفي اليد ، لم يتهمهم أحد بفساد مالي ، بل كانوا نموذجاً للأصالة والنزاهة والشرف.
ما يؤخذ على نظام «العساكر» ـ هكذا كان يسمى ـ الممتد من «17» نوفمبر 1958م حتى أواخر أكتوبر عام 1964م ، هو ضعف الرؤية السياسية ، إذ لم يكن للفريق إبراهيم عبود ، وأعضاء المجلس العسكري الأعلى ، أيدولوجية سياسية تحدد رؤية النظام ومساره ، وكانوا ضباطاً مهنيين محترفين لا علاقة لهم بالسياسة ، لذلك أصبحوا ألعوبة في أيدي السياسيين بالداخل ، عندما تم إقناعهم بالاستيلاء على السلطة بناءً على اتفاق مع رئيس الحكومة آنذاك الأميرالاي عبد الله بك خليل ، وهذه هي أكثر الروايات رواجاً ، إذ لم تجد من يكذبها أو ينفيها ، لكن في تقديري وتقدير الكثيرين من المهتمين بالتاريخ السياسي لبلادنا ، أرى أن إتفاقية بناء وتشييد السد العالي مع الحكومة المصرية آنذاك كانت هي القشة التي قصمت ظهر النظام في الخرطوم .
بالأمس مرت ذكرى وفاة الفنان الكبير محمد وردي أو الفرعون كما اطلق عليه أستاذنا الكبير حسن ساتي هذا الإسم .
عندما تسلم العسكر السلطة ، تغنى الراحل الكبير الأستاذ محمد وردي بـ «في 17 هب الشعب طرد جلادو» وعندما أطيح بالانقلابيين غنى محمد وردي «أصبح الصبح الصبح ولا السجن ولا السجان باق» وتغنى بـ «أشهدوا شهداء كرري» وتغنى غيره بأغنيات عرفناها في قاموسنا الفني بـ «الأناشيد الوطنية» ومنها نشيد الملحمة التي كتب كلماتها الشاعر الكبير الأستاذ هاشم صديق ، وتغنى بها الفنان الكبير محمد الأمين ، وكتب وقتها شاعرنا الراحل الكاتب والأديب والسفير عبد المجيد حاج الأمين قصيدة «هبت الخرطوم في جنح الدجى» التي سرعان ما تلقفها الفنان الكبير عبد الكريم الكابلي وتغنى بها.
يتراجع كثير من الفنانين عما تغنوا به لنظام ما ، وكذلك المواطنون ، والفنان عادة ما يعبّر عن عموم الناس ، لكن هذا الأمر كان يقلق الأخ الأستاذ الكبير محمد وردي كثيراً ، بل يضايقه لأن البعض اعتاد على مهاجمته دائماً بأنه يتغنى للأنظمة الديكتاتورية ؛ فغير الغناء لعبود ، تغنى للرئيس الراحل نميري ـ رحمه الله ـ من كلمات شاعر الشعب الأستاذ محجوب شريف ، وتغنى للنظام كله ، بدءاً من «يا فارسنا وحارسنا» مروراً بـ «أنت يا مايو الخلاص» انتهاء بـ «رفاق الشهداء»، ثم انقلب عليه لاحقاً بـ «بلا وانجلى» وغيرها مما عدّه بعض النقاد من أشعار التوبة السياسية.
كل ذلك الأمر يقلق الأستاذ وردي ويضايقه ، وأذكر أن الإذاعية المتميزة الأستاذة شادية عطا المنان، سبق لها أن أجرت لقاءً مطولاً ومشتركاً بيني وبين الفنان الراحل المقيم ، داخل منزله في الخرطوم، كان اسمه «النيل والقمر» تستضيف فيه شخصيتين تمثل إحداهما بالنيل والثانية بالقمر ويدور حوار طويل حول قضايا عامة وجريئة ، وقد تم بث ذلك البرنامج من خلال ست حلقات في الإذاعة الرياضية .
طرحت الأستاذة شادية ذات السؤال المقلق والمزعج على الفنان الكبير ، فتغيّرت ملامح وجهه، وتجمعت ملامح الغضب وطغت على محياه ، وأراد أن يرد .. هنا تدخلت وطلبت أن أرد إنابة عنه ، ولم أعطه فرصة تفجير ذلك الإنفعال ، وقلت لمقدمة البرنامج إن الفنان الكبير ـ وردي أو غيره ـ ينفعل مثل المواطن العادي بـ «الشعارات» التي يطرحها «النظام الجديد» فيؤيده بشدّة ، مؤملاً في أن يتحقق ما ظل يحلم به طوال حياته ، لكن مع الأيام يكتشف أن كل الذي طرحه النظام لم يكن إلا مجرد شعارات للاستهلاك لا للتنفيذ ، فيتوقف عن تأييده للنظام ، وينقلب عليه في أول فرصة ، فالفنان لا يخون مبادئه بل الأنظمة هي التي تتمرد على شعاراتها وتخونها .
هنا تنفس الفنان الكبير محمد وردي ـ رحمه الله ـ الصعداء وأصبحت تلك إجابته دائماً على كل من يطرح عليه ذلك السؤال السخيف .
رحم الله الجميع وغفر لهم وأسكنهم فسيح جناته.

Email : [email protected]

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.