بُعْدٌ .. و .. مسَافَة* *مصطفى أبو العزائم**من دفتر أحوال الصراع الدموي على السلطة …

** عندما مرت علينا ذكرى محاولة قلب نظام مايو التي قادتها الجبهة الوطنية في 1976م ، سألني أحد أبنائي ، وقال لي أين كنت وقتها ؟ أجبته بأنني كنت أدرس بكلية التجارة في جامعة القاهرة فرع الخرطوم ، وكنتُ أعمل في ذات الوقت مدرّساً بمدارس كرري الثانوية العامة . طلب إلي إبني أن أنقل له وقائع ذلك الحدث ، فقلت له إن تلك الأحداث كانت خطيرة ، و نتج عنها موت وعنف ، ومرارات وغصص حادة في الحلوق وضغائن الصدور ، وقد سمى الإعلام الرسمي الحكومي تلك المحاولة الفاشلة تارة بـ(الغزو الرجعي – الليبي للسودان) وبـ(محاولة المرتزقة الفاشلة لغزو السودان) تارةً أخرى . وقد حفّزني ذلك السؤال على أن أراجع أوراقي القديمة المتّصلة بتلك الأحداث ، إذ أردت ذات يوم من الأيام أن أسهم في كتابة تاريخ السودان بعيداً عن الإنفعال أو الهوى ، أو التأثير بإنتماء لفكرة أو حزب أو شخص ، وبذلت جهداً كبيراً في ذلك، وإطّلعت على يوميات تلك الأحداث والوقائع من خلال أوراق المحاكمات ، ومن خلال محاضر مجلس الوزراء ، ومن الإطلاع على بعض الوثائق النادرة داخل أرشيف جهاز الأمن والمخابرات الوطني خلال فترة حكم الإنقاذ بعد أن طلبت ذلك بإلحاح من الجهات المختصة . وكان الأمر يتصل بأخطر الأحداث التي شهدتها بلادنا ، وسالت فيها دماء ، و أزهقت أرواح وهدمت بيوت و صوامع ، منذ أحداث ود نوباوي ثم الجزيرة أبا 1970م ، وثورة شعبان الطلابية 1973م ، ثم محاولة الإنقلاب على سلطة مايو في سبتمبر 1975م ، وأحداث يوليو 1976م التي نكتب عنها اليوم . المعلومات كثيرة وخطيرة ، وكُلٌّ يحكي وفق موقفه من الحدث ، وموقعه من النتائج ، إلّا الموتى من شهداء تلك الأحداث ؛ فقد رحلوا بأسرارهم وقناعاتهم ، وبقي علينا أن نراجع كل تلك الإفادات وأن (نغربلها) ، ونصفيها تصفية كاملة بعيدة عن ربطها بذات الذي يحكي أو بشخص الذي يريد أن يلعب دوراً غير حقيقي في تاريخ هذا الوطن المنكوب بنكبة الصراع على السلطة، وهي نكبة أقعدتنا بينما سار الآخرون ، وخلّفتنا عن ركب المستقبل بينما تقدم الآخرون . الجمعة الثاني من يوليو 1976م ، بدأت الأحداث عند الخامسة صباحاً لحظة وصول طائرة الرئيس “جعفر محمد نميري” _ رحمه الله _ عائداً من فرنسا بعد جولة شملت الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الفرنسية.. وتمت مهاجمة المطار وعدد من معسكرات القوات المسلحة في المدن الثلاث والكباري والإذاعة السودانية ودار الهاتف ومساكن عدد من القيادات وعدد من المنشآت المختلفة ، نهار ذات اليوم إنتقل بث الإذاعة السودانية من “أم درمان” إلى “جوبا”، وبدأت إذاعة وبث بيانات المساندة من قبل مؤيدي النظام وسدنته ، وتمت إذاعة بيانات للسيد “أبيل ألير” نائب رئيس الجمهورية ورئيس المجلس التنفيذي العالي للإقليم الجنوبي و”بونا ملوال” وزير الثقافة والإعلام ، بينما كانت القوات المسلحة تتحرك في العاصمة لإسترداد معظم المنشآت العسكرية من أيدي القوات (الغازية) تساندها قوات الأمن ، وقد أستشهد عدد من الضباط وضباط الصف والجنود في تلك العمليات ، كان من بينهم اللواء “الشلالي” واللواء “محمد يحيى منور”. صبيحة (السبت) الثالث من يوليو إستردت القوات المسلحة كل المعسكرات والقواعد العسكرية بمعاونة القيادات التي جاءت إلى العاصمة ولعبت دوراً كبيراً في تلك العمليات ، وتم إعتقال العشرات من الذين حاولوا الاستيلاء على السلطة ، وفي مقدمتهم قائد العملية المرحوم “محمد نور سعد”.. وتم في ذات اليوم تحرير الإذاعة من قبضة محتليها لتعاود البث نهار ذلك اليوم إلى جانب إذاعة جوبا ، وقد أذاع رأس النظام ، الرئيس “جعفر نميري” أول خطاب له بعد تلك المحاولة معلناً دحر (المؤامرة) ومشيراً إلى خطاب اللواء أركان حرب “محمد الباقر أحمد” النائب الأول لرئيس الجمهورية الذي كشف فيه تفاصيل وحقائق عملية (الغزو البربري الإرتزاقي الليبي) – أو كما قال – في وقت أبرق فيه جلالة الملك “خالد بن عبد العزيز آل سعود” ، ملك المملكة العربية السعودية والرئيس “محمد أنور السادات” رئيس جمهورية مصر العربية ، أبرقا القيادة السودانية والشعب السوداني مهنّئين بإندحار المؤامرة الفاشلة . في ذات اليوم خاطب الرئيس “نميري” الشعب السوداني للمرة الثانية وأكّد أن ما حدث فجر (الجمعة) الثاني من يوليو لم يكن محاولة إنقلابية عسكرية ، بل كان غزواً أجنبياً غادراً تم تجنيد الآلاف من مختلف الأجناس للمشاركة فيه، وتمَّ ضمُّ بعض السودانيين من ضعاف النفوس إليهم وتم تدريبهم في الخارج.. لذلك قرر السودان (الرئيس) سحب سفيره من ليبيا ، وأعلن الرئيس “نميري” عن إجراءات لتعقب الهاربين ، وإستمرار حظر التجول الذي أعلنه وزير الداخلية آنذاك الرائد “مأمون عوض أبو زيد”. كانت هناك ردود أفعال أخرى اتصلت بالجوار السوداني والمحيطين الإقليمي والعربي.. ربّما يحين وقت الكتابة عنها قريباً بإذن الله تعالى .Email : [email protected]

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.