العدو الأول (1-3).. كتبت رشان أوشي

تبدو الأقدار كأنها تعاند السودان ، بينما يصارع عدوان عنيف وسط عاصفة سياسية غير مسبوقة، تمتد إليه مخالب أبناءه العاقًون لتنهش ما تبقى من عافية في جسده المنهك.

أعتقد أن التسمية الصحيحة للسودان هي “بلاد الفرص” ، كل انتهازي يطمح في جمع ثروة كبرى ، وجد ضالته خلال هذه الأيام العجاف .

ينخرط السودان في مواجهةٍ مفتوحةٍ متعددةَ الجبهات ، فإن بذور الحرب جرى غرسها ورعايتها قبل سنوات ، وما حدث يوم ١٥/ ابريل الا تكملة لمشوار طويل جعل المحرقة لا يمكن تجنبها.

المسئولية سوف تظل معلقة على رقاب أصحابها، هناك من الذنوب التي اقترفت بحق هذا الشعب ما يكفى ؛ ولا يوجد ما يعفى أحداً من مهمة الخروج من هذه المأساة.

الانهيار الاقتصادي نتاج تدهور قيمة العملة الوطنية الذي نعيشه هذه الأيام أسبابه متعددة ، ولكن أهمها وأبرزها ثلاثة قضايا:

اولاً: قبل الحرب ، تعاقد بنك السودان المركزي مع شركة “عملات” الإماراتية لطباعة الجنيه السوداني ، وتسلمت الشركة “الاكلشيهات” والرسوم ، وبالفعل تمت طباعة مبلغ ضخم ، عندما طالب بنك السودان بتسليمه الأموال، بدأت المماطلة .

تمت مخاطبة الشركة عدة مرات عبر الايميل الرسمي وكان الرد سلبياً، بعدها علمت قيادة الدولة أن الشيخ “منصور بن زايد ” رئيس مجلس إدارة البنك المركزي الاماراتي الذي تتبع له شركة “عملات” قد وجه بعدم ارسال الشحنة إلى الحكومة السودانية .

لم يتعافى بنك السودان من صدمة احتجاز مخزونه من العملة الوطنية في الامارات ، بجانب نهب مليشيا الدعم السريع لشركة مطابع السودان (صك العملة) ، مما اضطر وزارة المالية إلى الاستدانة من البنك المركزي لسداد رواتب القوات النظامية والخدمة المدنية ، وخاصة بعد توقف حوالي (٨٥٪) من الإيرادات .

ثانياً: القضية الآخرى تتعلق بمجموعة من رجال الأعمال (سنعود إليهم بالتفصيل ) ، انتهزوا فرصة الضائقة المالية التي تمر بها الدولة ، وقاموا باحتكار استيراد بعض السلع الاستراتيجية منها الوقود ، وجمعوا ثروات ضخمة.

بواخر “البنزين” و “الجازولين” ترسوا على مرابط ميناء بورتسودان حتى يجمع صاحبها قيمتها من السوق الاسود ، لا يهم إن انهار الجنيه أو بلغت قيمته (١٠) الف مقابل الدولار الواحد ، لا يهم ، لأن المواطن سيشتري الوقود بقيمة الدولار في حينها.

هذه المافيا ظلت تتحكم في سلعة الوقود ، ويحاول تماسيحها ابتلاع كل موظف عام يتصدى لجرائمهم ، يمتلكون المال ، وعلاقة وثيقة بالسلطة.

طالب بنك السودان بتنظيم هذا القطاع كثيراً ، حتى يتوقف الموردون عن الاستيراد بشراء النقد الأجنبي من السوق الاسود ، ولكن وزارة المالية أصرت على التحرير.

أحد رجال الأعمال بلغت به الوقاحة بأن قام بتهديد موظف عام ، رفض منحه قرضاً من أحد البنوك ، لأنه لم يلتزم بسداد قرض سابق، حرض عليه الصحافة وأنفق أموالاً طائلة على مهرجي السوشيال ميديا من أجل اغتيال شخصيته .

كل تلك الجرائم يدفع فاتورها الشعب النازح واللاجئ من قوت يومه ومستقبله .

بعد معارك ضارية، نجح بنك السودان المركزي في وضع سياسات تحد من تمدد هذه المافيا ، وتفكك سيطرتها على سلعة الوقود والتحكم في سعر الصرف ، وذلك
بإنشاء محفظة مشتركة للسلع الاستراتيجية بينه وبنك الخرطوم بقيمة (مليار) دولار ، وبذلك يكون قد اوصد الباب امام جشع المستوردين .

سياسات البنك المركزي الجديدة بمثابة “اغلاق البلف” أمام هذه المافيا، وأكثر المتضررين منها محتكري استيراد الوقود لأنهم يتسببون في انهيار العملة الوطنية مقابل النقد الأجنبي ، وفي ذات الوقت يجنون ارباح طائلة من بيع الوقود بأسعار مرتفعة، بينما المواطن يخسر مرتين، بارتفاع أسعار السلع تبعاً لتدهور الجنيه وقفز أسعار الوقود بمعدلات غير طبيعية بسبب جشع المستوردين.

محفظة السلع الاستراتيجية ستوفر الدولار لاستيراد الوقود بسعره الحقيقي مما يحقق فوائد مزدوجة باستقرار سعر صرف الجنيه وتحديد أسعار حقيقية للوقود .

ظل البنك المركزي يقاتل من اجل حسم هذه الفوضى الاقتصادية ، حتى كللت مساعيه بنجاح نسبي ، يتعلق بقرار تأسيس المحفظة .

حجز مقعد الصدارة في الوظيفة العامة شئ ، وحجز مقعد بارزٍ في التاريخ شيء آخر. والتاريخُ ممحاة لا يعاندها إلا من يترك بصمات يتعذّر إزالتها، حتى يكتبه التاريخ زعيماً لا موظف عام تهرم جاذبيته إذا خسر المكتب و الأختام.

ثالثاً: هو دور هيئة الجمارك في تدمير الاقتصاد الوطني سنعود إليه بالتفصيل في المقال القادم .

محبتي واحترامي

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.