الخلافات تعصف بميليشيا الدعم السريع وتحولها إلى عصابات: هل بلغت الحرب خط النهاية؟

كتب – عزمي عبد الرازق

بالرغم من أن العميد عمر حمدان رئيس وفد التفاوض لمتمردي الدعم السريع حاول أن يخفي حقيقة الخلافات التي ضربت صفوفهم، والسلوك المتفلت لقواتهم في الميدان، إلا أنه، وبصورة آخرى أثبت ما قصد نفيه صراحة، وذلك عندما أقر في حواره مع (قناة الجزيرة مباشر) بأنهم اضطروا لتشكيل قوات لحماية المدنيين في مناطق سيطرتهم، وحاكموا أكثر من أربعمائة فرد من قواتهم، لارتكابهم انتهاكات مختلفة. وما قاله عمر حمدان في تلك المقابلة، هو تقريباً نفس ما أشار إليه الوليد مادبو من قبل بأن “حميدتي لم يعد يسيطر على قواته” !!

فقدان البوصلة السياسية

الأمر أكبر من ذلك، وبصورة ربما لا يعلمها حميدتي نفسه، المتخفي في مكان ما، إذ أن قيادة متمردي الدعم السريع، التي تُدير العمليات من مكان مجهول، تشير العديد من الوقائع إلى أنها فقدت السيطرة بالكامل على قواتها، وتعاني من فوضوية وحالة من الانهيار المعنوي والعسكري، وفقدان البوصلة السياسية، حتى بدت للكثيرين بأنها، تقاتل بلا هدى، وينزف جنودها لأسباب غامضة، فالديمقراطية التي احترقت أجسادهم تحت نيرانها، وتم نهب وتشريد ملايين السودانيين باسمها، لم تكن قضيتهم ولا تستحق كل هذه الدماء إطلاقاً.

دخلت قيادة متمردي الدعم السريع في أزمة مكتومة منذ اليوم الأول للحرب، وذلك عندما شعر قائدها “حميدتي” بأنه تورط في معركة لا قِبل له بها، وقام بطلب وساطة قادة الحركات المسلحة لتقريب الشقة بينه والبرهان، لكن شقيقة عبد الرحيم أصرّ على المواصلة في القتال، وتسلم زمام القيادة بعد ذلك، بالتنسيق مع جهات خارجية، لها مطامع في ثروات السودان، وهي التي تمد المليشيا، إلى اليوم، بالسلاح والمعلومات، وهو ما ألمح إليه المستشتار المعزول يوسف عزت في خطاب الوداع، حين أشار إلى هيكلة العمل المدني والسياسي ونقل مسؤولية إدارته، تحت مسمى “مجلس التنسيق المدني لقوات الدعم السريع”، الذي يشرف عليه عبد الرحيم دقلو، بشخصيته العصبية، كثيرة الشكوك والرِّيْبةَ.

الصراع على المغانم

بدأ الخلاف الميداني، أكثر وضوحاً، بعد احتلال الدعم السريع لولاية الجزيرة تحديدًا، فقام عبد الرحيم دقلو بإرسال خاله “صالح عيسى” لملازمة أبو عاقلة كيكل، وتضييق الخناق عليه حتى لا ينفرد بالأمر، وقد تولى عيسى الجوانب المالية والإدارية، بصورة أغضبت كيكل، الذي أصرّ على تعيين حراسة له من أقاربه، يثق فيهم ويطمئن إليهم، وقام بعد ذلك بالاشتباك مع قوات تابعة لأحمد يعقوب والسميح في محلية الكاملين، وقوات (قُجّة) في محلية الحصاحيصا، وقَتّل منهم العشرات، وحاول تعيين قائد في منطقة المعيلق، لكن باءت محاولته بالفشل بسبب التسليح المحدود لقواته.

و بلا مواربة يمكن القول أن السبب الرئيس في ذلك الصراع المُميت هو أموال وممتلكات المواطنين التي تمّ نهبها، وفي وقت تعهد فيه كيكل لسكان المناطق الذين استنجدوا به، للدفاع عنهم وحماية ممتلكاتهم، كانت قوات قجة وجلحة تستبيح كل القرى، وتقوم بالقتل والنهب والتشريد. ومع إستمرار عمليات النهب والسلب ونصب الحواجز على طُرُق وكباري ولاية الجزيرة توسعت الخلافات بين مجموعات التمرد (كيكل، جلحة، الكسابة، المستنفرين، المرتزقة) ليتطور الأمر إلى توزيع المحليات بينهم، وفرض الضرائب والأتاوت والرسوم على التجار وسيارات الكارو التي تقوم بترحيل المواطنين، وأصبحت الأسواق في ولاية الجزيرة وجنوب الخرطوم مرتعاً خصباً لقادة وجنود المليشيا، لتوفير الأموال من الأنشطة غير القانونية، مثل بيع المخدرات والسلاح. ففي مدينة الحصاحيصا لوحدها تنتشر نحو خمس ارتكازات للدعم السريع، تقوم بنصب التفاتيش وتحصيل الرسوم، وتمتد إلى فداسي وود مدني، وقد انشغل أفرادها في فتح محلات خدمة الـ starlink، أو تأجيرها لكسب الأموال، بينما تنشط البقية في الهجوم على الأسواق والقرى ونهب كل شيء له قيمة مالية.

مرتبات خاصة وتجنيد قسري

من المهم الإشارة إلى أن قيادة متمردي الدعم السريع أوقفت صرف الرواتب لقواتها في ولايتي الجزيرة وسنار، وتقوم فقط بإرسال التحويلات المالية لأبناء (الرزيقات – الماهرية) الذين يقاتلون قي صفوفها، عبر تطبيق بنكك، بمحاباة أثارت حالة من السخط لدى بقية أفراد القبائل المُستنفرة.

وكانت شبكة “سي إن إن” قد نشرت تحقيقاً، قبل عدة أشهر، قالت فيه إن قيادات متمردي الدعم السريع أجبرت مئات الرجال وعشرات الأطفال على التجنيد في صفوف التمرد قسراً بعد سيطرتها على ولاية الجزيرة وسط السودان العام الماضي، وكشف التحقيق أنه تمّ تجنيد نحو 700 رجل و 65 طفلاً قسراً لزيادة قواتهم في ولاية الجزيرة وحدها.

ونقلت الشبكة الأمريكية عن شهود عيان قولهم إن القوات التي يتزعمها محمد حمدان دقلو تستخدم الجوع سلاحاً، حيث تحرم مَن يرفضون الانضمام لصفوفها من الطعام والإمدادات الغذائية. وبثت الشبكة تقريراً مصوراً يظهر رجالاً وفتياناً سودانيين يتعرضون للتعذيب من قبل عناصر من الدعم السريع، ما يعني بأن المليشيا فقدت قواتها المدربة بسبب ضربات الطيران والعمليات الخاصة، وقبل كل شيء بسبب الخلافات بين القبائل التي تقاتل في صفوفها.

ثمة تباينات وصلت إلى درجة التلاسن بين عبد الرحيم وبقية أبناء أسرة آل دقلو الذين شعروا بأنهم خسروا الكثير من الاستثمارات والامتيازات الشخصية بسبب الحرب التي أشعلوها، وأصبحت تطاردهم اللعنات، ويخفون وجوههم أثناء تنقلهم في المطارات والشوارع – خارج السودان – وما حدث للقوني دقلو في لندن ليس ببعيد. فضلًا عن ذلك فقد طالبهم عبد الرحيم بتوجيه الأموال للأسلحة والعتاد العسكري وشراء ولاء القيادات الأهلية، وجلب المزيد من المرتزقة، لكسب المعركة التي طالما راهن عليها، بينما يصر أخواه (القوني و عادل دقلو) على الحفاظ على ما تبقى لهم من ثروة، والاكتفاء بالصرف المحدود على الإعلام وبعض النشطاء، وقيادات تنسيقية تقدم.

كيدهم في نحرهم

بالعودة إلى الصراعات القاعدية، وفقدان البوصلة، ثمة أزمة داخلية في ولايتي الجزيرة وسنار، وكذلك جنوب دارفور، وصلت لحد الاشتباك والقتل، ففي ولاية الجزيرة قامت مجموعة تابعة للواء عصام فضيل بالهجوم على منطقة المسيد التي كان يتحصن فيها القائد المليشياوي عمار جرمة، وتم منحه رتبة مقدم وتعيينه قائداً على منطقة (المسيد وآلتي)، وقد نصب جرمة نقاط عبور لتحصيل الأموال من كل المارة، وكون ثروة كبيرة من تلك الأنشطة، على امتداد طريق الخرطوم مدني، وقد اشتبكت معه مجموعة فضيل بسبب رغبتهم في أن يتم توريد تلك الأموال إليهم، مما تسبب في مقتل جرمة وإصابة العشرات في المعركة التي دارت بالقرب من سوق المسيد.

أما في شرق الجزيرة فقد احتدم الصراع بين قوات تابعة ل (كيكل) من جهة وقوات أخرى تم استقدامها من ولاية الخرطوم، وقد حاولت تلك المجموعة اعتقال قائد ثاني المليشيا (العميد الطاهر جاه الله) في شرق الجزيرة على خلفية استقلالية قوات جاه الله، التي تم تكوينها من أبناء المنطقة، ووصل الأمر بينهما إلى تبادل النيران، والأن تكاد تكون منطقة شرق الجزيرة، بما فيها رفاعة وتمبول خارج سيطرة القائد الميداني لمليشيا الدعم السريع (عثمان عمليات) فيما تتحصن مجموعة أخرى متفلتة تابعة ل (جلحة) في مصنع سكر الجنيد، الذي تعرض إلى عمليات نهب وتدمير واسعة.

وعلى صلة بتلك الأزمات فقد نشبت أزمة آخرى عقب مقتل قائد محور سنار عبد الرحمن البيشي، على تركته ومن سيخلفه، ما بين شقيقه وبين القائد عيسى سليمان الذي وقف خطيباً على قبر البيشي، لكن الأمر استقر موقتاً لتنصيب ابن عمه حمودة البيشي، الذي أشتهر بالنهب والسلب، لضمان الإمداد والتجنيد، إلا أن الخلافات ضربت صفهم مرة آخرى، وأكملت طلعات الطيران الحربي بقية المهمة.

الهروب من محرقة الفاشر

في ولايات دارفور أفادت تقارير صحفية أن الخلافات ضربت صفوف المليشيا بعد الهزيمة التي منيت بها في الفاشر، تحديداً بعد مقتل القائد على يعقوب، الذي تسبب في فقدان تماسك تلك القوات، وفشل حملات التجنيد، وتسببت أيضاً تقارير الموت بالجملة للمرتزقة وقوات الفزع على أسوار (المدينة الصامدة) في خلافات وانشقاقات حادة بين قادة وجنود مليشيا الدعم السريع فيما بينهم، وتحدثت التقارير عن غضبة الأهالي في مدن نيالا والضعين وكاس وزالنجي ووادي صالح نظراً للزج بالمستنفرين والأطفال في محرقة الفاشر، وهروب القيادات الميدانية، على رأسهم (النور قبة وجدو أبوشوك).

على ذات النحو يصعب تجاهل الملاسنات، التي تطورت إلى تهديد، بين القائد الميداني (جلحة رحمة)، من أبناء المسيرية، وأبناء الرزيقات داخل صفوف المليشيا، وبدأ ذلك الفصل الدرامي عندما وصف عمران عبد الله مستشار حميدتي القائد الميداني جلحة بأنه مجرد جندي، فثارت ثائرة الأخير بسبب تلك العبارة، وقام أنصاره بتهديد عمران وكذلك عمر جبريل والجوفاني، وقال جلحة بطريقته الهازئة: “أنا ما دعم سريع، أنا قوات التدخل السريع، وأسألوا عني الجنرال حميدتي، وتعالوا لي في الميدان”. بينما رشحت معلومات – لم يتم التحقق منها بعد – أن قائد مليشيا الدعم السريع في شرق الجزيرة (أبو عاقلة كيكل) وضع على السيارات التي يتحرك بها في الولاية الخضراء شعار “درع البطانة” عوضاً عن الدعم السريع، في إشارة ربما إلى استقلاليته بقواته، وكذلك بقراره.

كتائب (خشوم البيوت)

أما في مدينة الضعين فقد تفجرت أزمة مماثلة، وذلك على خلفية إعتقال النقيب حامد إبراهيم، أحد قادة المليشيا من أبناء المسيرية، وأعلنت كتيبة تابعة له في الخرطوم تمردها على قيادة الدعم السريع، وطالبت بإطلاق سراح قائدها أو أنها سوف تقوم بمهاجمة الضعين، تلك المدينة التي تعيش حالة من الرعب بسبب هجوم مرتزقة النيجر وأفريقيا الوسطى عليها، لنهب سيارات وأموال المواطنين التي تم تخزينها فيها، وقام أحد أبناء المدينة بالاستنجاد بالجيش للتدخل وتهديئة الأوضاع الأمنية المضطربة، كما ظهر قي تسجيل صوتي، فضلًا على تداعيات الصراع على هيئة الإسناد المدني بقيادة خليفة باخت، المُقرّب من يوسف عزت، والمجلس الاستشاري في الضعين الذي يتحكم فيه محمد خاطر، المحسوب على مستشار الدعم السريع عز الدين الصافي، أحد رجال عبد الرحيم دقلو. فيما طالت عمليات النهب والمواجهات مدينة نيالا، لأجل الحصول على، ما يعتبرونها، غنائم حرب، أي “نهب المنهوب”، كما لو أن الحرب وضعت أوزارها، بالنسبة لهم على الأقل.

حالة التصدع والتخوين وسط قيادة الدعم السريع سرعان ما سرت في أوصال القيادة الميدانية، وانتقلت منها إلى القوات على الأرض، وأصبحت عبارة عن جُزر معزولة عن بعضها البعض، أقرب إلى كتائب (خشوم البيوت)، بلا رقيب، تنشط في النهب وتجارة المخدرات، وأكثرهم جعل من (أسواق دقلو) للمسروقات ملاذاً وعملاً، وتحت أجواء الفوضى والتمزق الداخلي فشلت تلك القوات في احتلال مناطق جديدة، آخرها حطاب والمناقل التي استعصت عليهم أيضاً، مثل الفاشر وبابنوسة.

خط النهاية

وإزاء هذا التناحر الداخلي، وسقوط كافة الشعارات السياسية، واختفاء العديد من قادة الدعم السريع، وتحوله حرفياً إلى عصابة تبحث عن المغانم، مع اشتداد ضربات الطيران والمسيّرات، دون أصوات المضادات الأرضية المألوفة، يبدو أن هنالك تحولات في سير المعركة، أو بالأحرى ربما نجح الجيش في تفتيت القوة الصلبة للدعم السريع، تمهيداً لمعركة برية يعد لها، منذ أكثر من عام تقريبًا. وبالمقابل بدأت قوات التمرد تتآكل داخلياً، هذا إن لم يكونوا قد اكتشفوا زيف جنة الديمقراطية ورفاهية السلطة، وكل ما كان يمنيهم ويعدهُم به حميدتي، وما يعدهم إلا غُرورًا، مع فقدان القبضة المركزية بالطبع، وغياب القرار العسكري الموحد، ما يعني بأن الحرب، بالصورة الأولى التي اشتعلت بها، ربما تكون بلغت خط النهاية، أو دخلنا عملياً إلى تصفيات معركة كسر العظم

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.