همس الحروف… الملازم بكري الحبر المشمر ، شهيد التضحية و الفخر في سبيل الله والوطن✍️ *الباقر عبد القيوم
*إن قصّة الشهيد الملازم بكري الحبر المشمر هي قصة مليئة بالعزة والفخر ، و تمثل أحد أروع مشاهد التضحية في سبيل الله و الوطن ، فكان أصرار بكري على المشاركة في المعركة منذ بداية الحرب .فلم يكتفِ بكري بمشاركة جسده فقط في المواجهة ، بل أضاف إلى ذلك الإحساس العميق بالمسؤولية تجاه أسرته و الوطن . فقبيل إستشهاده بثلاثة أيام فقط حضر من أمدمان إلى محلية الغابة ، قرية (أبوقسي) محل إقامة أهله ، و هو يحمل بحراً من الشوق إلى والديه ، و كذلك يحمله الشوق إليهم ، و كأنه كان على علم بموعده الآخير مع القدر ، فكلماته التي ودع بها والديه كانت تعبر عن علم مسبق ، فعبارته الأخيرة ما زالت تطن في أذني أمه و أبيه : (اعفوا عني يمكن أن يكون هذا اليوم هو آخر مره ألقاكم فيها) ، هنا إنهمرت الدموع كالسيل ، و تقطعت أحشاء (أمه) و أسرته ، و هم يسمعون هذه الكلمات منه ، و قد كانت هذه العبارة تنم عن إدراكه العميق بخطورة الموقف وحقيقة ما ينتظره ، إلا أنه كان يعرف أن تلك اللحظات قد تكون هي الأخيرة ، و لكنه كان مستعداً للتضحية بكل شيء من أجل الله و الوطن ، حتى وإن كان ذلك على حساب الفراق الأبدي عن أهله .عندما حضن بكري والدته طالباً منها العفو ، لم تطلب منه البقاء ، و لم تمنعه من الذهاب ، كما فعلن ذلك كثير من الأمهات ، لانها كانت مؤمنة بأن ثمن الحرية هو التضحية لا غير ، فكانت تلك اللحظات مليئة بالحزن والفخر في آن واحد ، إنها لحظة تعكس عمق العلاقة بين الشهيد بكري و أسرته ، و تصف لنا صدق نية هذا البطل الصغير عمراً و الكبير مقاماً . و رغم الألم الذي قد تعيشه الأم بفقدان ابنها ، إلا أنها تظل مملوءة بالفخر لأن ابنها قد نال شرف الشهادة في سبيل الله ، و الشهادة هنا أسمى من كل شيء .إن فقدان الشهيد له طعمٌ مختلف ، حيث تتداخل مشاعر الحزن و الفخر في آن واحد ، هما (الفقد و الاحتساب) ، فعندما نسمع عن استشهاد أحد الأبطال في سبيل الله ، يختلط الألم بالحمد ، فنشعر بالحزن على فراقه العاجل ، ولكننا في الوقت ذاته نفرح لأنه نال شرف الشهادة ، وهو أمر عظيم في ميزان ديننا الحنيف .الشهادة في سبيل الله ليست مجرد موت ، بل هي بداية حياة أبدية لا تنتهي ، فهي حياة ممتدة بالخلود في جنات الله ، فشهيد هذه الأمة هو من نال أعلى مراتبها ، حيث اختاره الله ليكون في قربه ، و نحسبه عن الرحيم الرحمن ، و أن مصيره جنة عرضها السموات و الأرض . تلك اللحظة التي تودع فيها روحه الدنيا هي لحظة فخر لأسرته ، ولأمته ، ولنا جميعاً ، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) .صحيح نتألم لفراق الشهيد الجسدي ، و لكننا نعلم يقيناً أن روحه بين يدي الله ، وأنه نال ما لم ينله غيره من البشر من أجر عظيم . فالشهادة ترفع من قدْر الشهيد في الدنيا ، وتضعه في أعلى مراتب الجنة في الآخرة ، فنيل هذا الأمر لا يُقاس بها أي شرف آخر .بينما نتألم لفقد الشهيد ، نشعر بالامتنان لنضاله و استبساله و تضحياته ، نتعلم من سيرته كيف نواجه المحن ، و كيف نكون في صراع دائم مع النفس لتكون حياتنا ذات هدف ورسالة ، إن الشهداء هم منارات في حياتنا ، وأمثلة حية على العزيمة والصبر في سبيل الله ، وهم يذكروننا بأن الفضل في الحياة لا يكمن في طول العمر ، بل في العمل الصالح والتضحية في سبيل الحق .إن استشهاد بكري في أمدرمان بعد تلك الدموع التي ذرفت ، و ذلك الوداع الحزين (بقرية أبوقسي) ، ما هو إلا دليل على عزم بكري وإصراره على الجهاد في سبيل الله و الوطن ، فقد اختار أن يكون في الصفوف الأمامية ، في الوقت الذي كان يعلم فيه أن حياته قد تنتهي في أي لحظة ، ولكنه لم يتردد في المضي قدماً .نسأل الله أن يتقبل شهادته ، و شهادة كل الذين مضت أرواحهم إلى بارئها في معركة الكرامه ، و ان يسكنهم جميعاً فسيح جناته ، و أن يجعل شهادتهم شفيعةً لهم و لأهلهم يوم القيامة ، و تلك هي تضحيات الأبطال الذين يعطون كل شيء في سبيل الله و الوطن ، ولا ينتظرون إلا رضاه ، تاركين لنا في الذاكرة سفراً عظيماً ، و إرثاً ثراً لنستلهم منه قيم الشجاعة والفخر الذي لا يمحى .
التعليقات مغلقة.