دور رئيس القضاء في تعزيز الإستقلالية و إستمرار العدالة في ظل الأزمات✍️ د. الباقر عبد القيوم

همس الحروف

يحكى في الأثر عن مالك بن دينار ، قال : مر نبي الله عيسى وأصحابه بجيفة ، فقالوا : ما أنتن ريحها ، فقال لهم : ما أبيض أسنانها ، و ما أشد سواد شعرها ، و ما أشد مضاء مخالبها . قال ذلك لينقلهم إلى الجانب الآخر غير المنظور من الكأس ، و هذا ما يؤكد أن خلف كل قبح جمال يدثر نفسه بالخفاء و الغموض ، حيث يتضح ذلك من خلال هذه القصة التي أوجدت مفارقة ، حيث وضعت الجمال والقبح في موقع غير موقعهما التقليدي المعتاد كما هو معروف عنهما ، فحضور أحدهما يعني تلقائيا غياب الآخر ، مثل الليل و النهار فهم في تعاقب بين الحضور والغياب ، فوجود الجمال يغلب على القبح ، حيث إستطاع نبي الله عيسى أن ينقل أصحابه إلى صورة جمالية أخاذه رغم حضور القبح مع الجمال جنبا إلى جنب ، ألا أنه إستطاع أن يرجح بكفة الجمال و ينسيء أصحابه نتانة القبح الذي أبتدروه في كلامهم .

ما جاء في عمود (كابوية) للزميل الكاتب الصحفي الحصيف الأستاذ عمر كابو بعنوان : (رئيس القضاء يهدر مبدأ استقلال القضاء) ، و الذي تعرض فيه لمواطن قبح ليس لأهميتها مكان في خضم هذه الحرب المستعرة ، و انا حسب رأيي لا ارى دواعي لذلك ، فأخالفه في بعض ما أثار ، وإتفق معه في نقاط ، ففي ما يتعلق بموضوع نقابة المحامين و لجنة قبول المحامين ، أنا معه فيما ذهب إليه و خصوصاً أنهما ليس كبقية الأجسام النقابية الأخرى التي تحكمها لوائح ، فهما جسمان يحكمهما قانون و القانون لا يتم إلقاءه إلا بقانون آخر ، فما زالت هذه القضية في سوح المحاكم و باحات العدالة و كان لا ينبغى إثارة هذا الموضوع كقضية رأي عام حتى لا يؤثر ذلك على سير العدالة ، فالقضية قيد التنفيذ أو إيقافه ، و نعلم أن هذه القضية تدور بين القضاء الجالس و القضاء الواقف ، و من المؤكد أن الحق سينتصر لانه مؤيد من عند الله تعالى و الباطل مذموم و مهزوم .

و لقد ذهب المقال إلى أبعد من ذلك و زاد عليه بمكيالين كسيارة رئيس القضاء الدستورية و التي لا أرى ضرورة لزجها في هذا الموضوع و خصوصاً إنه منذ إستلامها من مؤسسة الرئاسة لم يستخدمها و سلمها لإدارة المحاكم ليستخدمها من يخلفه ، و قضية الرئيس البشير و رفاقه و التي ما زالت قيد النظر ، و موضوع السجون التي تعين له الأجهزه القضائية في جميع الولايات قاضي مختص بالسجون و المساجين ، و قد.ذكر الكاتب كل ذلك دون التعرض لما قام به رئيس القضاء من إنجازات ضخمة تحسب له في رصيده و يشكر عليها ، إذ لولا جهوده لما استمرت المؤسسة القضائية في أداء دورها في هذه الظروف الصعبة ، و يكفيه فخراً أن هذه الإنجازات كانت في عهده ، و إكتملت في صمت و وقار دون إحداث أي جلبة أو فرقعة إعلامية كما يفعل البعض ، فقراره بإنشاء محاكم عليا في الولايات الأمنة حتى تكتمل دائرة التقاضي في الولايات ، و هذا يعتبر من أضخم الإنجازات في حق تحقيق العدالة و خدمة المواطنين و تسهيل إجراءاتهم في أماكن سكنهم و أضف إلى ذلك مكاتب التوثيقات التي انتظمت معظم محاكم الدولة .

مشاكل أصحاب السعادة القضاة الذين يعيشون المسغبة كما ذكر الكاتب ، و رئيس القضاء واحد منهم ، تعترضهم إشكالات كثيرة ، و قد أتت من واقع ما تم فرضه على السلطة القضائية التي حوربت بعد الثورة بصورة تفوق حد التصور ، و لكن على الرغم من ذلك ظلت المؤسسة العدلية تصارع هذه الظروف القاهرة محافظة على مؤسسيتها و حيادها و إستقلاليتها ، لم تنجرف إلى أي جهة كانت ابداً ، فموضوع ما يمر به السادة القضاء من ظروف مادية معقدة من واقع قلّة رواتبهم ليست مجرد مسألة تتعلق برئيس القضاء بحد ذاته ، بل هي قضية تتعلق بأداء الدولة بكاملها ، و ما هو معلوم بالضرورة أن ميزانية السلطة القضائية تأتي إليها من وزارة المالية ، فالسلطة القضائية كغيرها من مؤسسات الدولة تعتمد على التمويل الحكومي ، لضمان استقلالها وعدم تأثرها مباشرةً بإيرادات القضائية مثل الغرامات ورسوم المحاكم و التي يتم توريدها أيضاً إلى وزارة المالية مباشرة ، و لهذا تعتمد المحاكم على الميزانية المخصصة لها من قبل الحكومة لضمان عملها بشكل فعّال ومستقل ، فمن أين لها بإزالة (المسغبة) ، و لهذا يجب أن يكون من أولويات الدولة التزامها تجاه هذه المؤسسة من حيث توفير الموارد اللازمة لها ، و من المؤكد عدم الاستجابة لهذه الطلبات و النداءات التي ظل رئيس القضاء يطلقها للإدارة العليا للدولة طيلة فترة بقائه في هذا المنصب من أجل تحسين اوضاع القضاة و التي سيقع مردود عدم الاستجابة على ظروفهم ، و على الرغم من ذلك لم و لن تؤثر على استقلالية القضاة وكفاءتهم و إستقلال القضاء ، و لهذا وجب على الدولة التزامها بدعم النظام القضائي بما يلزم لضمان سير العدالة على أكمل وجه .

أؤكد للكاتب و للرأي العام أن رئيس القضاء لم يهمل حقوق القضاة ، و حقوق الموظفين ، و ما زال يجاهد ويصارع لتحقيق نتيجة إيجابية في ذلك ، و لكن من الواجب على الدولة أن تقوم بدورها في دعم وتوفير الموارد اللازمة للجهاز القضائي ، و أن تضمن للقضاة مقابل مادي يتناسب و مسؤولياتهم و أهمية دورهم في نظام العدالة و تحقيق العدل ، و تحسين ظروف بيئة العمل وضمان الاستقلالية المالية للقضاة ، بالقدر الذي يسهم في تعزيز نزاهة واستقلالية القضاء و فرض هيبة المؤسسة و من خلال ذلك تفرض هيبة الدولة .

في خضم هذه الظروف إستطاع رئيس القضاء إدارة المؤسسة القضائية ، و إستطاع الحفاظ على استقرارها رغم ظروف الحرب ، و لم يقف مكتوف الأيدي بل عمل على توسيع نطاق المحاكم العليا و المراجعة في الولايات لتسهيل الوصول إلى العدالة للمواطنين . و بالإضافة إلى ذلك قام بزيادة عدد الاستراحات لتوفير سكن ملائم للسادة القضاة الذين لا يتوفر لديهم مكان للإقامة ، مما يساعد في تحسين ظروف عملهم وضمان استمرارية الأداء القضائي بصورة افضل ، قاهراً بذلك كل الظروف التي كانت تقف ضد إرادة المؤسسة العدلية ، مما حافظ على سير العدالة وهيبة المؤسسة القضائية ، و استطاع ان يعزز الثقة في النظام القضائي و استقرار أدائه خلال الأزمات ، و عمل وفق فريق عمل نشط على استمرارية الإدارات و تكاملها ، مما ساهم في تعزيز كفاءة العمل القضائي وضمان عدم انقطاع الخدمات القانونية .

السيد.رئيس القضاء رجل متواضع ، و قد أتى الى الحياة العامة من بيت عمالي بسيط من بيوت مدينة الحديد و النار (عطبرة) المشهورة بنزاهة أبنائها و حسن تربيتهم السلوكية، فهو رجل تكنوقراط جاء وفقًا للتراتبية ، مما يعكس التزامه بالكفاءة والخبرة في إدارة المؤسسة القضائية ، لم يُعين إلى منصبه بقرار سياسي كما حدث في الحالات السابقة، بل جاء بناءً على التراتبية و الكفاءة و الخبرة ، و لا يمكن لأي شخص نسبه إلى أي جهة سياسية، مما يعزز ذلك نزاهته واستقلاليته في أداء مهامه ، فهو رجل مهني لا يتدخل في شؤون القضاء و سير العدالة أو يؤثر على القضاة ، ومن هنا نستطيع أن نضمن استقلالية النظام القضائي ونزاهته . فإذا إختلفنا مع الرجل أو اتفقنا معه ، فإنه من الضروري أن نقول كلمة الحق بشأنه ونعترف له بإنجازاته ومساهماته بشكل موضوعي وعادل .

و الله من وراء القصد

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.