ضرورة المساءلة و الشفافية في المؤسسات الأمنية✍️ د. الباقر عبد القيوم

همس الحروف

أصدرت شرطة ولاية نهر النيل بياناً توضيحياً نشرته (عزة برس) يعكس ملابسات الشكوى التي قامت بنشرها المواطنة آمنة محمد عزاز تفيد بفقدانها لمبلغ مالي أثناء التفتيش الروتيني بالإرتكازات التي فرضتها تداعيات الحرب .

و من المؤكد أن الشرطة تمثل العمود الفقري في إستقرار الدولة ، و تعد العنصر الأساسي في الحفاظ على الأمن و النظام و المجتمع ، وتاريخ الشرطة السودانية الطويل وتجاربها العديدة ساهمت في تطوير استراتيجيات فعالة لمكافحة الجريمة وتعزيز الشعور بالأمان في وسط المجتمع ، و من المهم دائماً دعم وتقدير جهودها مع العمل على تحسين أدائها وتعزيز الثقة بينها وبين الشعب .

إلا أن الإستعجال من قبل هذه المؤسسة العظيمة في نفي كل ما ينسب لها من تجاوزات منتسيبها يعد ضعفاً في مهنية من يقوم بصياغة هذه التقاير ، التي تبني مشاعر عدم الثقة فيها ، و التي يشعر بها البعض تجاه هذه المؤسسة التي صلب مهمتها خدمة الشعب .

ما يحدث في الشارع من ممارسات بعض أفراد القوات النظامية ليس قصة تروى لنا أو فلم نشاهده ، بل هو واقع مؤلم نعيشه يومياً ، و تعكس هذه الممارسات واقعاً مريراً لا يمكن تجاهله أبداً ، لأن الشهادات اليومية التي تُجمع من المواطنين تعكس معاناة حقيقية تتطلب استجابة فورية و جادة من الجهات المختصة ، و كذلك لابد من معالجة سريعة تزيل الأغبان التي تترتب نتيجة مثل هذا السلوك المنحرف ، فالتبريرات السطحية التي لا يسندها مبرر و التجاهل لوقائع هذه الانتهاكات لا تفيد في بناء الثقة مع المجتمع .

إذا كانت الشرطة تسعي بصورة جادة إلى إصلاح ذاتها ، فيجب عليها أن يكون هناك اعتراف بالأخطاء التي يحدثها بعض صغار منسوبيها ، و لابد من إحداث تغييرات جذرية في السياسات والممارسات ، و اللوائح و الأوامر المستديمة و متابعة ذلك على الميدان ، و قد يتطلب الأمر أيضاً إنشاء آليات مستقلة لمراقبة أعمالها ، حتى يشعر المواطنون بأن لديهم قناة آمنة للتعبير عن شكاواهم دون ان يتم تجريمهم .

الإهمال وعدم المحاسبة و قله الرقابة تتزايد معها مشاعر الخوف والقلق في المجتمع ، و لذا من الواجب أن يتعين على السلطات أن تدرك أن السلامة العامة لا تتطلب فقط القوة ، بل تتطلب أيضًا احترام حقوق المواطنين وتقديم الدعم اللازم للمجتمع .

عدم الإستماع لشكوى المواطنين يزيد دائماً من تفاقم المشاكل و يرفع من المخاوف و الشعور بعدم الأمان .

من الواضح أن البيان التوضيحي من قبل شرطة نهر النيل كان بياناً بهاتاً و ضعيفاً و غير مقبول ، و كان فقط يهدف إلى حماية سمعة القوات النظامية ، و لكنه غفل عن أهمية الاعتراف بالأخطاء التي حدثت ، فكيف أهمل البيان الترصد الذي جعل المواطنة آمنه مطلوبة بالإسم في إرتكاز كانت لأول مرة في حياتها تعبر به ، كان من الأفضل أن يتضمن التوضيح الاعتذار و المحاسبة ، لأنهما يعززان الثقة بين الشرطة والمواطنين ، ويعكسان التزام الشرطة بتحسين أدائها في مثل هذه الحالات ، و من الضروري أن تتبنى الجهات الرسمية ثقافة المساءلة من أجل بناء الثقة العامة مع المواطنين .

من الواضح أن البيان لم يكن بمستوى الاحترافية المتوقعة ، مما يعكس ذلك ضعف في صياغتة ، و في سرد تفاصيله ، و كان ينبغي أن يتضمن البيان معلومات دقيقة حول الحادث و كيف عرف النظامي إسم الضحية ، و لماذا طالب بنزولها من البص لوحدها دون غيرها و هي أنثى ، و كيف تسمح القوات النظامية بوجود طرف ثالث في المسرح و هو ليس له علاقة بها ، و ما هي الإجراءات المتخذة و الظروف و الملابسات ، كل هذه التفاصيل لا تخرج من فطنة المواطن ، و كان ذلك أفضل من التشكيك في الإدعاء ، و إضافة على ذلك يجب أن يكون البيان عبارة رسالة طمأنينة للمواطنين ، فمثل هذه البيانات يجب أن تعكس كفاءة الجهة المعنية وقدرتها على التعامل مع مثل هذه المواقف بفعالية و إحترافية .

و لا زلنا نذكُر تلك الورطة التي زُْجت فيها الشرطة بدون مبرر من واقع تصريح غير مهني من لواء حقوقي كان مديراً لشرطة ولاية كسلا ، في قضية الشهيد أحمد الخير حينما قال : (أن المرحوم قد توفي نتيجة تسمم حدث له مع آخرين من بينهم نظاميين بعد تناولهم وجبة فول بالجبنة بمكاتب الأمن) ، ثم ثبت بعد ذلك أن الشهيد قد أُزهقت روحة بصورة متعمدة نتيجة التعذيب ، و كان من العدالة أن يتم تحريك بلاغ ضده بتهمة إختلاق (بينة) بقصد تضليل سير مجريات العدالة ، إلا أن السودان يصعب أن يكون فيه هذه الشفافية و ادوات المحاسبة ، فكل الأمور تقوم على الشللية ، و زولي و زولك و صديقي و صديق يعني بالمختصر المفيد (أصحاب ، أصحاب) .

قضية الشهيد أحمد الخير تسلط الضوء على قضايا كبيرة تتعلق بإنتهاكات لحقوق الإنسان ، وتعتبر مقياس لمدى مصداقية الجهات الرسمية ، و ضابط لعشوائية التصريحات و البياناات ، التي تعكس في كثير من الأحيان مجرد محاولات لتبرير الأحداث بدلاً من الاعتراف بالحقائق ، هذه الحوادث تؤكد حاجة بلادنا إلى جرعة ضخمة من الصدق و إحياء الضمائر و الشفافية ، و ابجرأة للمحاسبة بصورة فعالة لضمان حماية حقوق الأفراد ، و وقف الانتهاكات .

في الحالات مثل قضية المواطنة آمنة ، من الضروري التعامل معها بجدية مع معالجة الأضرار النفسية والمعنوية التي تعرضت لها ، و تعويضها مادياُ و معنوياً ، و كما يجب أن يترافق مع ذلك دعم نفسي شامل لها ، و محاولة مساعدتها في تجاوز هذه التجربة القاسية ، فمحاولة تكذيب الضحية من قبل الشرطة أو تجاهلها يفاقم من حجم الغبن ويزيد المشكلات ، و لهذا من الواجب أن تتبنى الجهات المعنية سياسة الشفافة التي تدعم الضحايا ، و تزيد من حجم ثقتهم في النظام القانوني ، و خصوصاً أن الدولة لا تعتمد في سلوكها مع الشعب ثقافة الإعتذار .

الشرطة السودانية مؤسسة عملاقة ولها تاريخ متجذر في خدمة المجتمع و لها مكانة خاصة في نفوس الشعب و لا أحد يمكنه إنكار ذلك أو التشكيك فيها ، و من الضرورة بمكان أن نجدد ثقنا فيها ، و أن ندعم جهودها التي تعزز الأمان و تحقق العدالة و نأمل أن تواصل العمل بجدية لتلبية تطلعات المواطنين وتحقيق الاستقرار ، و كما يجب عليها أن تتجنب التبريرات السطحية التي لا تتناسب مع حجم مسؤولياتها ، و مكانتها العملاقة عند شعبها ، و أن تتحلى بالشفافية و المصداقية في التعامل مع القضايا ، وأن تسعى بجدية لمعالجة المشكلات الناتجة من صغار منسوبيها ، و أن تسعي في تحسين أدائهم بتفعيل أجهزة رقابتها من أجل حسم التفلتات ، و محاولة بناء جسور من الثقة على الأفعال الجادة و الالتزام بالمبادئ .

و الله من وراء القصد

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.