حرقوا الدار السودانية للكتب”لا تخافي على الأولاد ما بتجيهم عوجة”بقلم: عثمان أبوزيد
عندما بلغني خبر حرق الدار السودانية للكتب على أيدي الجنجويد، حاولت الاتصال بابن مؤسس الدار أحمد عبد الرحيم مكاوي، لكن هاتفه لم يستجب.
وتأكدت من تواتر الأخبار أن الخبر صحيح. لم أكن أتوقع أن يستهدف الجنجويد دور الثقافة من المكتبات والمتاحف والوثائق، لكن يبدو أنها النزعة القديمة ذاتها التي حملت المغول على حرق مكتبة بغداد، وهو الحقد القديم الذي دمر مكتبات قرطبة وطرابلس من قبل.
أستدعي بهذه المناسبة الحزينة ما كتبته يوم وفاة الحاج عبد الرحيم مكاوي صباح الأربعاء أول ديسمبر 2021م.
في آخر لقاء مع مكاوي قال لي: ألا تسأل لنا في مكة عن أصول أسرتي. عرفت منه أن جَدُّه وصل إلى السودان من مكة وعمل في بربر ببيع العطور، وكان عبد الرحيم يجتهد خلال زياراته المتعددة إلى مكة في تتبع أثر من بقي من أصول الأسرة.
حدَّثني الدكتور حسن الشايقي أن عبد الرحيم ذكر له بكل تواضع أن منزلهم في بربر لما توفي والده كانت فيه غرفتان؛ واحدة معروشة والأخرى من غير سقف، وكانت الوالدة مهمومة بأولادها وتربيتهم، فرأت الوالد في المنام يحضر إليهم راكبًا جملاً ويحمل معه “شوالين عيش”، ويقول لها: “ما تخافي على الأولاد ما بتجيهم عوجة”.
أصبح عبد الرحيم صاحب أكبر دور العرض المتخصصة لبيع الكتب في السودان.
تقع الدار السودانية للكتب وسط الخرطوم في شارع البلدية. حدثني الحاج عبد الرحيم عن شرائها ثم بنائها، إذ كان موقع الدار لـ (كونتي مخلص)، وكان على هيئة بيوت الخرطوم القديمة (حوش وأربع غرف).
كلما وصلت إلى الخرطوم، لدي برنامج ثابت أن أزور الدار السودانية للكتب وأنعم بجلسة مع الحاج عبد الرحيم وأتزود من حكاويه وقصصه ورؤيته في قضايا النشر.
أعتبر إجازتي ناقصة عندما أزور الدار السودانية للكتب ولا أجد صاحبها الحاج عبد الرحيم مكاوي. أتحفني ذات زيارة بالجديد من الكتب، وبالقديم من ذكريات الخرطوم. كانت أمامه صورة نشرت في صحيفة ألوان لقهوة (التومة) في السوق العربي تعود إلى سنة 1955م. قال لي عبد الرحيم إنه كان يأتي من السكة حديد إلى القهوة ليشرب الشاي باللبن أو اللبن بالشاي، وكان سعره قرشا واحدا.
وبشأن توزيع الكتب سمعت منه أن أكثر ما يثري انتشار الكتاب ربط الكتاب المدرسي والجامعي بدور النشر التجارية، وقد ضعف النشر والتوزيع بسبب قرار حكومي أوقف نشر الكتاب الجامعي وكتب المناهج الدراسية.
حدَّثني مكاوي عن أكثر الكتب مبيعًا لديه في الدار على مدى تاريخها؛ الرواية الروسية (د. ديفاجو) ويبدي دهشته من تجاهل هذه الرواية في الوقت الحاضر، يقول: منذ الخمسينيات حتى الآن لم يسألني منها أحد! وذكر من الكتب المطلوبة كتاب الرحيق المختوم للمباركفوري وهو من إصدار رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة.
ولم تخل جلساتي مع عبد الرحيم من التعليق على الشأن العام، وفي ذكر إخوانه ممن رحلوا إلى دار الخلود. كان حفيًا بهم غاية الحفاوة. وقد بادر إلى نشر كتاب الدكتور محيي الدين خليل “قصص وأمثال البقارة”، وكتب معي العقد في جلسة واحدة، بل كان تسليم العائد المالي من الكتاب لأسرة المؤلف في تلك الجلسة وقبل الطباعة والتوزيع.
وهذه مأثرة في التعامل المالي الأمين، ينقل طرفًا منها أيضًا أستاذنا البروفيسور عبد الله الطيب عندما حاضرنا ذات مرة في ندوة بمجلس الصحافة، وكان يعلق على التعامل السيئ الذي يلقاه المؤلفون من الناشرين، واستدرك بالقول أن فيهم أولاد حلال، وذكر قصة الناشر الليبي الذي كان يطبع كتابه “المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها” دون اتفاق معه، وقابل في أحد المعارض بليبيا الحاج عبد الرحيم مكاوي فأرسل معه حقوقه كاملة، وقال عبد الله الطيب: كان ذلك المال هو أكبر مبلغ يدخل جيبي!
وختاما نقول بيقين إن الخرطوم سوف تعود أكثر ازدهارا وألقا بإذن الله تعالى، وتعود الدار السودانية ورفيقاتها من معالم الحضارة والثقافة السودانية.
كلما قابلني قاصد للخرطوم من أصدقائنا غير السودانيين، أوصيهم بزيارة الدار السودانية للكتب، لأنهم يجدون فيها ما يسرهم.
وصيتي لهم باقية، ما بقيت الخرطوم الشريفة ومعالمها المنيفة.
ومهما حصل، نتذرع بقول والد عبد الرحيم في المنام: ما تخافي على الأولاد، ما بتجيهم عوجة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.