السودان والسعودية خصوصية العلاقة وتجاذبات السياسة
ارتبط السودان وبلاد الحرمين الشريفين بتاريخ طويل ومتجذر في القدم منذ صدر الإسلام حيث ينسب بعض المفسرين ومنهم العلامة عبد الله الطيب وآخرين من المحدثين بلال بن رباح مؤزن سيدي رسول الله إلى بلاد السودان الحالية .
ويرجع بعض المؤرخين المحدثين سر العلاقة الخاصة بين السودانين والسعوديين وتفصيل الآخرين للاولين على طوال التاريخ القريب، نسبة لقيام الملك فاروق ملك مصر والسودان في ذلك الوقت بإرسال بعض النوبيين من الدناقلة والمحس الذين كانوا يعملون في إدارة قصور العائلة الملكية في مصر ، في معية الملك عبد العزيز بن سعود المؤسس بعد انتهاء زيارته إلى مصر .
وهم الذين قامت على اكتافهم مهمة تحديث النظم وإدارة البلاط السعودي منذ نشاته إلى يوم الناس هذا تجد بعض من سلالتهم مصدر ثقة وامن وامان الملوك والامراء السعوديين.
و بذرة الثقة والأمانة التي وضعها الآباء والاجداد من النوبيون هي من فتحت الطريق امام آلاف ان لم يكن مئات الآلاف من السودانيين ليصبحوا الخيار المفضل للمؤسسات والشركات والاسر السعودية عند اي معاينة توظيف مقارنة بالجاليات العربية التي وفدت الى المملكة العربية السعودية بعد الطفرة النفطية سبعينيات القرن الماضي راسمين لوحة التاريخ المشترك بعرق وجهد لم تمحه تقلبات السياسة
2
ساعد هذا الوجود السوداني الكبير الذي فاق المليوني شخص في كثير من الاوقات لتكون العلاقة بين الشعبين والحكومات المتعاقبة في البلدين الى درجة من المتانة لا يمكن مقارنتها مع علاقات السودان مع دول اخرى .
لذا عندما تطاولت جماعات الاسلام السياسي على الملك فهد بن عبد العزيز خلال ما عرف بالغزو العراقي للكويت ضيقت الحكومة السعودية على كثير من الشعوب التي وقفت حكوماتهم مع صدام حسين لكن القيادة السعودية استثنت السودانيين من الاجراءات التعسفية رغم سوء الفاظ وتصرفات الجماعة الاسلامية التي كانت تحكم السودان ( الإنقاذ/ البشير/ الجبهة الإسلامية/ الترابي) ضد السعوديين ملكا وحكومة وشعب .
3
ظلت المملكة داعمة للسودان خلال كل فترات الحكم الديمقراطية ومشاركة السودانيين توقهم للحرية بداية من مناهضة السودانيين لنظام مايو ايام الجبهة الوطنية بقيادة الشريف حسين الهندي او فترة مناهضة نظام البشير في عشريتيه الظلامية من خلال التجمع الوطني الديمقراطي بقيادة السسد محمد عثمان المرغني مرورا بالخاتم عدلان وقرنق مبيور ، ظلت فيها الحكومة السعودية صديقا مخلصا وبلا حساب لقوى المعارضة السودانية.
وعندما قرر السودانيين التحاور وقفل باب الشقاق ، كانت المملكة حاضرة عبر اتفاق (جدة) الاطارئ الذي رعته السعودية و فتح بسبقه الطريق امام اتفاق نيفاشا واتفاق القاهرة الذي عاد بموجبه التجمع الوطني الديمقراطي للسودان ، واستمرت في دعمها للسودان وشعبه وعندما أراد البشير اللعب في اعدادات المنطقة العربية في صراعها مع ايران ضيقت عليه الرياض الخناق من جديد إلى أن استقام ليعود دفء العلاقة مع حكومته ، وعندما قرر الشعب اسقاطه استمعت المملكة بكل احترام وتقدير لصوت الشعب لانه ابقى من الشخوص والحكومات.
4
وبعد اتفاق ١٨ اغسطس وتوقيع الوثيقة الدستورية الذي فتح الباب امام تعين الحكومة الانتقالية الأولى بقيادة الدكتور عبد الله حمدوك، لم تقف المملكة مكتوفة الأيدي رغم ما نالها من بعض السودانيين وسارعت لدعم حكومة الثورة الوليدة باستكمال منحة المليار ونصف دولار الذي كانت قد سلمت منها نحو نصف مليار دولار، للمساعدة في تثبيت أقدام الحكومة الجديدة والانتقال الديمقراطي من جهة و تأكيد لخصوصية العلاقة بين الشعبين وانها لا تتاثر بقول الشانئن.
خصوصية العلاقة هذه والمصير المشترك بين السعودية التي يفصلها من السودان البحر الأحمر ألا انه لم يكن مانعا طبيعيا بل جسرا لكل طالب عمل او او علم دينيا كان او دنيويا ، او تحقيقا لحلم ضاقت ارض السودان عن تحقيقه وكانت المملكة على الدوام الخيار الأول عندما تضيق ارض السودان بأهلها فيمخروا عباب البحر متوكلين طلبا للعيش الكريم وتحقيق الأحلام المستحيلة.
هذا التاريخ المشترك والواقع الماثل هو ما جعلنا نحن معشر الصحفيين لا نستغرب كثيرا ونحن نرى السفير علي بن جعفر في ردهات الحكومة الانتقالية فرحا مع كل تقدم ومشفقا مع كل تعثر وهو ما لمسناه عندما رأينا المملكة تسارع باستضافة رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح برهان و رئيس الوزراء عبدالله حمدوك مجتمعين تارة ، ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك واعضاء حكومته من السياسين لوحدهم تارة اخرى ليتم استقبالهم من أعلى هرم المملكة ممثلا في خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز تاكيدا منه لدعم استقرار الانتقال السياسي السلمي والحضاري في السودان.
5
كل ذلك يعكس بجلاء لكل صاحب بصيرة وقوف المملكة على مسافة واحدة من جميع الأطراف السودانية، بل ابعد من ذلك مما لا يعلمه كثير من السودانيين ان العاصمة الرياض في ليلة ٢٥ اكتوبر كانت تضم وفد المقدمة من مكتب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك تمهيدا لاستقباله للمرة الثالثة للتوقيع عاى جملة من المشروعات الاقتصادية والاستثمارية.
وبالإمس القريب حملت الانباء زيارة السفير السعودي لمباني وزارة الخارجية السودانية بغرض أحياء هذه الاتفاقات قبيل انعقاد أعمال قمة الدول المطلة على البحر الأحمر مطلع الاسبوع القادم ، وبالضرورة ستكون قضايا المؤاني حاضرة ومن الواضح أن التفاهمات حول هذا الأمر ستكون بعيدة من مسؤولي القطاع الاقتصادي الحاليين في الحكومة التنفيذية (…) لدوافع شتى من بينها السياسة الداخلية في السودان والتقاطعات الاقليمية والدولية!!.
6
وفي جوبا عند مفاوضات السلام كانت المملكة حاضرة عبر وعدها بإقامة مؤتمر اقتصادي دولي لدعم السلام واوفت بما وعدت وراينا ممثلي اكثر من عشرين دولة في مؤتمر الرباش وهم يتعهدون بدعم سلام وانتقال واستقرار اقتصاد السودان .
وكان السفير بن جعفر هو القاسم المشترك في كل الجهود السعودية خلال فترتي الحكومة الانتقالية والذي لم تقتصر على الشأن السياسي حيث كنا على الدوام في الصحافة والإعلام السوداني مع كل كارثة صحية (الكرونا) او طبيعية من سيول وأمطار، نغطي وصول طائرات الإغاثة وهي تزحم مطارات الخرطوم لثلاث سنوات على التوالي كانت مدن السودان تشهد تهدم بيوت السودانيين المتعففين مايقودهم للمبيت في العراء ، لتاتي الخيام وضروريات الحياة لتستر ما كشفته الفيضانات والسيول من عورات اقتصادية ، ولم يكن الجسر الجوي الاخير من قبل مركز الملك سلمان للاغاثة الذي تجوب فرق عمله في هذه اللحظات ولاية الجزيرة والنيل الابيض .
لكن مع ذلك هناك من لا يعجبه هذا الجهد والعطاء الانساني على وقع المثل ( جاء يساعدوه في دفن ابيه دس المحافير) .
7
وليت الأمر وقف عند هذا بل انطبق نفس المثل وقع الحافر على الحافر فيما يتعلق بالدور السعودي لوضع حلول تنهي الازمة السياسية المتطاولة بفعل الانقلاب على الوثيقة الدستورية الذي جعل السودان بلا حكومة للشهر التاسع على التوالي.
وبدلا ان يجد هذا الجهد تقدير و دعم السياسين رأينا بدلا عن ذلك سوء فهم مزمن لهذا الدور المكمل والمساعد لتحقيق رغبة السودانيين وتوقهم لإنهاء هذه الأزمة من قبل بعض من عامة الناس وكثير من النخب التي تجاهلت عمدا ان السودان ليس جزيرة معزولة من العالم، وأن اي انهيار سياسي واجتماعي او حروب داخلية بفعل هذه الأزمة سيلقي بظلاله على دول الإقليم كافة بما في ذلك السعودية بالضرورة.
8
وهذه الضرورة تحتم ان لا ينتظر من يؤثر السودان على امنهم ان يقفوا مكتوفي الايدي وهم يرونه ينهار امام أعينهم ، لذا تتكامل جهودهم مع الدول التي تشاركهم هذا الهم وهو ما يفسر التحركات السعودية المحمومة الى جانب بريطانيا والولايات المتحدة ومصر وجنوب السودان .
لكن بعض من النخب المستفيدة من حالة اللاحكومة الذي اتاح لهم الانفراد بشبح الدولة الموجود ان كانوا من فلول النظام القديم او من اشياع الوضع الجديد او الطامعين في الاستئثار بالسودان دونا عن الاخرين ، تجدهم يتفاوتون في الميل او الهجوم على المملكة ممثلة في سفيرها الحسن جعفر تارة او مبعوث الامم المتحدة تارة اخرى او بريطانيا وامريكا في احيان أخرى ، او كل من يعمل لاستعادة التوافق والوفاق بين مؤسسات الدولة الراسخة من قوى نظامية واحزاب .
9
من الطبيعي ان يحاول كل ان كل طرف في الازمة السودانية استمالة احد الاطراف الاقليمية او الدولية الى رؤاه الخاصة ، وعندما تابى هذه الدولة او سفيرها نجده عرضة للهجوم، وهو الادهى والامر لما يمثله من انانية سياسية ترقى لدرجة الابتزاز الذي لا يليق بثقافة السودانيين بشكل عام وخصوصية العلاقة التي اوضحنا سبقها وكسبها في صدر هذا المقال .
لكن يظل العزاء الاول والاخير ان الشعب السوداني في عقله الجمعي النقي ينظر بتقدير عال لبلاد الحرمين الشريفين لانه يعلم انها البلد الوحيد الذي ليس له اطماع في السودان وان تحركها واجب يمليه وحدة المصير والتاريخ المشترك والمستقبل الواعد والبحر ألذي يربط استقرار البلدين وما عجزت الجغرافيا عن فصله قطعا لن تفصله تقليات النخب وتطلعاتها والايام حبلى يلدن كل جديد وسعيد وبخيت على شعب السودان بكل تاكيد .
عمار عوض..
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.