بُعْدٌ .. و .. مسَافَة* كُنْتُ هناك في طرابلس أول أيام الإنقاذ كتب “مصطفى ابوالعزائم”
** …* بعد نشر مقالنا السابق عن وجودي وعدد من الزملاء الصحفيين داخل القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية ، عقب إسقاط نظام الإنقاذ في العام 2019 م ، إتصل عليّ أحد الزملاء من أبنائنا شباب الصحافة الحديثة ، وسألني قائلاً : ” طيب … كنت وين يوم إنقلاب الإنقاذ ؟ “. قلت للصحفي الشاب ، أنه حتى يوم سقوط نظام الرئيس الراحل جعفر محمد نميري ، رحمه الله ، كنت ومجموعة من زملاء المهنة داخل القيادة العامة للقوات المسلحة ، وقابلنا الفريق عبدالرحمن سوار الذهب وعدد من أعضاء المجلس العسكري الإنتقالي ، وقد سبق أن كتبت عن ذلك من قبل . أما عن إنقلاب الإنقاذ في الثلاثين من يونيو 1989م فقد كتبت عن ذلك من قبل ، لكن لا بأس من أن أذكر ذلك مرة أخرى ، فعند استيلاء نظام الإنقاذ على السلطة في السودان قبل ثلاثة وثلاثين عاماً ، عبر إنقلاب عسكري أقصى الأحزاب عن السلطة ، وجاء بالحركة الإسلامية متخفّية تحت أثواب العسكريين والإستقلالية ، لتطرح برنامجها مقابل (لا برنامج) الأحزاب التي يتشدّق قادتها بالديمقراطية والزعامات لا تتزحزح ، تمارس السلطة من أبراج عاجية .. والمواطن يعاني شح الخبز والوقود وإنعدام الكهرباء وانقطاع المياه وتردي خدمات الصحة وتراجع التعليم ومؤسساته .. مع زيادة مضّطرة في أعداد الذين يحتاجونه ويحتاجون لبقية الخدمات . لن أنسى – على المستوى الشخصي – ذلك اليوم وكنت وقتها أعمل في ليبيا متعاقداً مع مؤسسة القدس الإعلامية ، بعد أن قررت مغادرة السودان في أواخر العام 1988م يأساً وقنوطاً من إصلاح يمكن أن يطال جهاز الدولة السياسي ، أو جهاز الخدمة العامة التي أضحت هيكلاً بلا روح .. ورغم ذلك لم تسلم من شد هؤلاء أو جذب أولئك . كان اليوم جمعة وكنت أقيم في شقة قريبة من مبنى البريد المركزي في وسط العاصمة طرابلس ، وقد سمعت بخبر الانقلاب من إحدى المحطات الإذاعية الأجنبية ، إذ لم يكن للفضائيات آنذاك وجود أو سطوة على العيون والآذان والأفئدة ، ثم أخذت أبحث عن أي مصدر آخر للمعلومات حول الانقلاب العسكري الجديد في السودان ، رغم أنني كنت أتوقع حدوثه ، مثلي مثل الملايين الذين عاشوا سنوات القحط والتردي في كل المجالات .. ولم أصل إلى أكثر من أن الإنقلاب قام به مجموعة من ضباط القوات المسلحة وعلى رأسهم ضابط برتبة العميد أركان حرب – وقتها – إسمه عمر حسن أحمد البشير ، وهنا قفزت إلى ذاكرتي معركة تحرير ميوم في جنوب السودان التي قادها العميد أركان حرب عمر البشير ، وصورته وهو يتحدث إلى تلفزيون السودان وأجهزة الإعلام الأخرى . حاولت أن اتصل بالسودان عن طريق الهاتف ، وكان هذا من رابع المستحيلات ، _ طبعاً المستحيلات المعروفة هي الغول والعنقاء والخل الوفي _ أقول إن الإتصال بالسودان كان مستحيلاً ، ليس لرداءة الإتصال أو الخطوط الهاتفية في السودان فحسب ، بل لقطع الإتصالات كجزء من تأمين النظام الجديد ، لذلك أدرت أقراص الهاتف الثابت – لم تكن هناك هواتف محمولة – وأجريت إتصالاً بالأخ والصديق والجار في الحي بالثورة ، السيد إسماعيل محمد عبد الدافع الذي كان يشغل وقتها منصب القنصل السوداني العام ، ولكنني لم أجده في منزله فإستسلمت للأمر الواقع في إنتظار ما تجود به المحطات الإذاعية أو أجهزة الإعلام والتلفزة المحلية في ليبيا . شيئاً فشيئاً أخذت الصورة تتضح ، وسمعت البيان الأول للإنقلاب ، وتابعت بعد ذلك التطورات على مستوى الداخل والخارج ، وتابعت زيارة الرئيس المصري السابق حسني مبارك للسودان، ثم زيارة رئيس مجلس قيادة ثورة الإنقاذ العميد أركان حرب عمر حسن أحمد البشير إلى ليبيا ، وقد شاهدته لأول مرة هناك وتابعت أخبار الزيارة من خلال علاقتي بسفارتنا في طرابلس إلى أن غادر البشير عائداً إلى الخرطوم ، وقد أحسست وقتها أن ذلك الرجل مقنع تماماً من خلال طرحه الذي طرحه وتحليله للأوضاع السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية في السودان ، وتقييمه للأوضاع العامة خاصة في جانب محاربة التمرد الذي فتك بالأرض والبشر ، ونما وتجبر حتى كاد أن يلتهم بعض مدن الشمال ، وكنت أحسب أن قائد الانقلاب الجديد سيقود سفينة حكمه بعيداً عن التيارات الحزبية الظاهرة مستنداً على الجيش والشعب معاً ، لكن كان لابد من سند سياسي وتيار داعم ، وقد كان التيار والسند في الحركة الإسلامية التي غاب عن كثير من أبنائها وأعضائها أنها كانت وراء ذلك الانقلاب.Email : [email protected]
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.